متابعة : سوزان مصطفى
كانت ليلة مدوية بنقاشاتها الساخنة، في قرية “أم الحمام”، التابعة لمحافظة القطيف، شرق السعودية، قبل أكثر من 17 عاماً، غص مجلس الأستاذ علي الحرز بالحضور، حيث قدم أحد الشباب “ورقة” تناول فيها ما اعتبر حينها محرماً ومساساً بالمقدس، قرأ فيها شيئاً من سيرة الإمام علي بن أبي طالب، واصلاً إلى استنتاجات أثارت غضب معظم الحضور، الذين ردوا عليه، بعضهم بقسوة، وآخرون بهدوء، والبعض وأنا منهم، كانت لديَّ تحفظات منهجية على النتائح التي خلصت إليها الدراسة، وطريقة المعالجة التي رأيت أنه تشوبها الكثير من الثغرات العلمية، كونها بنت فرضية وراحت تبحث عما يؤيدها، دون التدقيق في مدى قوة الأدلة ومتانتها، مع إيماني بحق الكاتب في التعبير عن رأيه دون ترهيب، فالرأي يردُ عليه بالرأي، وحرية التعبير قيمة إنسانية أساسية، لا يمكن التفريط بها.
لكنها لم تعتبر المرة الأولى التي يشهد فيها مجلس “أبو كفاح” هذا النوع من السجالات الفكرية التي كانت غاية في الجرأة، بغض النظر على مدى صوابية أو خطأ رأي أصحابها، إلا أن الأهم، أن الحوار كان هو الأساس، وأننا كشبان في مقتبل العمر، كنا نربي أنفسنا على تعددية الأفكار، وأن التنوع في العقول طبيعة بشرية، وأن من حق أي شخص أن يدلي بدلوه، دون أن يمارس ضده عنفٌ مادي أو رمزي.
صحيح أن صديقنا صاحب “الورقة العاصفة”، رغم صوته الخفيض، وخجله الشخصي، ناله الكثير من النقد، وتلت ذلك مماحكاةٌ بينية، إلا أن ذلك لم يدفع النقاشات لأن تتوقف، أو لأن ينفض السامر ويدخل الجلاس في عراكٍ، واكتفي بشيء من أضرار ما بعد العاصفة، ما لبث أن هدأت.
وكانت ردود الأفعال تلك طبيعية جداً، في مجتمع محافظ، يسعى بعض أفراده لتعزيز فردانيتهم، والخروج عن الرأي العام الجمعي.
التدريب على اختلاف الرأي
وتعد هذه اللقاءات تمريناً صعباً جداً وحقيقاً، يقيس فيه الإنسان قدرته على تحمل الرأي المختلف، داخل الطائفة، خصوصاً أن اللحمة الاجتماعية حينها كانت تؤكد على ضرورة الاحتماء من “الآخر المناوئ”، وتحديداً التيارات “الصحوية” التي تتربص بالسعوديين الشيعة وتسعى للنيل من عقائدهم. ولذا، فأي مراجعات أو قراءات اجتماعية للفكر الديني والخطاب الفقهي، كانت تقابل بمحاولات ردعٍ لها، خشية من أن تؤدي هذه الممارسات الميدانية المختلفة،
لتفتيتت تماسك المجتمع، أو تخريب منظومته الفكرية، كما يتصور البعض.
المجلس، طوره صاحبه الأستاذ علي الحرز، وتحول تالياً إلى “مكتبة جدل”، والتي باتت مقصداً يزوره الكثير من المهتمين بالأدب والثقافة، بعد أن جمع أبو كفاح مئات العناوين المختلفة، والعديد من الموسوعات والمجلات والصحف، وفتح مكتبته أمام الباحثين.
إلتقاء التيارات المتنوعة
قبل ذلك وعلى مدى أشهر طويلة، كُنا نجتمع أسبوعياً في مجلس السيد إبراهيم الزاكي بمدينة سيهات، حيث توكلُ المهمة في كل مرة لأحد الأفراد، بتحضير موضوع، يكون محل النقاش، بعد أن يقدم فكرته وتصوره حوله.
كان مُضيفنا، شخصية تتصف بالأدب الجم، والأخلاق العالية، ومن أكثر الأصدقاء الذين تجل تواضعهم ومحبتهم للحوارات الهادئة والرصينة.
الكاتب “ابراهيم الزاكي” الذي كانت ابتسامته تشرق كشمس تضيء أرواح من حوله، ورغم هدوء طبعه، فإن مجلسه الضيق مساحة، المتسعُ محبة، كان يرحب بمختلف الآراء، لشبانٍ من تيارات إسلامية وليبرالية ويسارية متنوعة.
كان أتباع “خط الإمام” وأنصار السيد محمد الشيرازي، والخارجون من عباءة “الإسلام السياسي”، والمتأثرون بتجربة “اليسار” في سبعينيات القرن الميلادي المنصرم، والمتلمسون طريقهم نحو الليبرالية الفكرية والاجتماعية؛ جميعهم هناك يستحضرون مواضيع أدبية وفكرية ودينية، وهم في نقاشتهم التي ترتفع حدتها أو تنخفض، تبعاً لطبيعة القضية محل البحث، بقي بينهم الاحترام، في تجربة جعلتنا أكثر قدرة على أن نبدد الأفكار المسبقة عن بعضنا البعض، ونقبل الاختلاف
ديوانية الغدير
واحدة من التجارب الثرية، لي شخصياً، كانت “ديوانية الغدير”، بجزيرة تاروت، ذلك المجلس الصغير حجماً، الكبير قدراً، بمنزل الشاعر شفيق العبادي، الذي كنا نجتمع فيه أسبوعيا، حتى ساعات متقدمة من الفجر في أحايين كثيرة، ثم يستمر النقاش في الزقاق أو الساحة أمام المنزل، قبل أن ندلف إلى مهاجعنا، بعد أن نكون قد شاهدنا فيلماً سينمائياً، أو قرأنا ديوان شعر، أو مقاطع من كتاب أو رواية أو ورقة بحثية أو مقال، أو ناقشنا موضوعاً سياسيا حدثياً، أو قضية اجتماعية ساخنة، أو مراجعات للخطاب الديني
السائد، يتلوها السمر، واحتساء أقداح الشاي!
وفي 12 يوليو 2020، نشر أحد رواد “الديوانية”، عبد الباري الدخيل، تعليقاً على صفحته الخاصة بموقع “فيسبوك”، يستحضر فيه ذكريات الأيام الخوالي، كاتباً “قال صديقي شفيق العبادي واصفاً مجلسه: اتساع القلوب باتساع المحبة. هذه الكلمة ذكرتني بذاك المجلس في بيتهم في الديرة، كان مجلساً صغيراً لكنه كما وصفه أبا فراس متسع بالمحبة.
يجمعنا الحب والفكر والشعر والأدب، نتداول بمحبة أحداث الساعة، وإنتاج الأدباء، وما فاضت به قرائح الشعراء. لم أسمع نبرة صوت ارتفعت على أخرى، ولا كلمة خارجة عن النص عند اختلاف، ولم يتنمّر مدعي حق على محاوره. تلك القلوب التي اتسعت بالحب تزهر بالفكر”.
لدى” أبي فراس”، لم يكن للنقاشات حدٌ، كانت السماوات مفتوحة على أفكارٍ متنوعة، متضاربة، متداخلة، شاطحة أحياناً حد الجنون في نظر البعض، سياسياً، دينياً، اجتمعياً، فنياً.. مشاكسات الاصدقاء ضحكاتهم العالية، والعقول التي يشحذُ كل واحدٍ منهم الآخر، والمواهب التي تصقل، والتجارب التي تتراكم، والمواجع التي يبوح بها كل شخص.. الخيبات والنجاحات، والأحلام الكبيرة التي تكسر بعضها، والعديد منها أُنجز.
هذه اللقاءات أفرزت أسماء وازنة في مجال الكتابة والشعر والثقافة، وصار لها حضورها الذي يتجاوز محافظة القطيف والمنطقة الشرقية، ونشرت نصوصاً في صحف ومجلات سعودية وعربية، منهم: شفيق العبادي، وزكي الصدير، ومحمد الماجد
وآخرون أصبحوا شخصيات لها حضور اجتماعي، والبعض تقلد مناصب وظيفية عالية، أو مارس التجارة وأصبح من رجال الأعمال.. لقد تعددت السبل، وتفرقت الدروب، إلا أن جميع هذه التجارب أثبتت أن “الروح الوطنية” كانت تجمعهم، وأن الرغبة في تجاوز السائد، ونقض الخطابات الطائفية، وتقديم الذات الحرة، المجردة، المتخففة قدر الإمكان من أثقال الماضي وأوجاعه، كانت مساعي عمل عليها كل شخص بطريقته الخاصة.